في مجتمعاتنا، نُصادف أشخاصًا يبالغون في إيذاء الآخرين واستفزازهم، فيكسرون، ويشوّهون، ويُتلفون، أو يلوّثون الأماكن بلا سبب واضح. قد يعبّرون عن غضبهم بتكسير المقاعد في حديقة عامة، أو بخدش سيارة أحدهم عمدًا، أو بإلقاء القمامة في مكان نظيف لمجرد الرغبة في الإفساد. هذه ليست مجرد نزوات، بل قد تكون جزءًا من مشكلة نفسية عميقة تعرف باسم عقدة الإيذاء، وهو ما سنفكّكه هنا علميًا ونفسيًا وإنسانيًا.
انضم إلى قناة بابونج المجانية على الواتساب نصيحة صحية يومية للحصول على نصائح طبية متنوعة يوميًا.
ما هي عقدة الإيذاء؟
عقدة الإيذاء هي نمط نفسي وسلوكي يتجسّد في المتعة أو الارتياح الناتج عن إفساد شيءٍ أو إزعاج شخصٍ آخر. لا يكون الهدف تحقيق فائدة، بل إيذاء من حول الفرد ماديًا أو نفسيًا، وتتجلّى في سلوكيات مثل:
-
تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة.
-
تلويث الأماكن الجميلة عمدًا.
-
كسر الأشياء دون دافع منطقي.
-
استفزاز الناس بالكلام الجارح أو الأفعال العدوانية.
ويُفسّر علماء النفس هذا النوع من العقد النفسية باعتباره تفريغًا مشوَّهًا لمشاعر العجز أو القهر أو الغضب الداخلي.
الجذور النفسية لعقدة الإيذاء
لفهم صاحب عقدة الإيذاء، علينا العودة إلى جذوره الأولى: من أين تنشأ الرغبة في تدمير ما هو جميل أو مؤذٍ للآخرين؟، إليك التالي:
-
الإسقاط النفسي: الشخص الذي يحمل ألمًا أو نقصًا داخليًا قد يُسقطه على الآخرين عبر إيذائهم، وكأنه يقول: “إن كنتُ متألّمًا، فليتألّم الجميع”.
-
اضطراب السيطرة على الغضب: العجز عن التعبير الصحي عن الغضب يجعل الفرد يفرّغه عبر التكسير والتلويث والتخريب.
-
الحاجة إلى إثبات الذات بالقوة: يشعر البعض بأنهم موجودون فقط حين يُحدثون أثرًا، ولو كان تخريبيًا. إنها محاولة مرضية لفرض الحضور عبر الفوضى.
-
غياب الوعي الأخلاقي أو ضعف الضمير: بعض الحالات تتعلق باضطرابات في الشخصية (مثل الشخصية المعادية للمجتمع) حيث تتراجع الحساسية تجاه الألم أو حقوق الآخرين.
-
نشأة غير آمنة: بيئة الطفولة التي يغيب عنها الحب والانضباط المتوازن قد تزرع إحساسًا باللامبالاة تجاه النظام أو الجمال العام.
اقرأ أيضًا: ما هو اضطراب الشخصية الارتيابية أو البارونية؟
المظاهر السلوكية لعقدة الإيذاء
يتّخذ سلوك الإيذاء أشكالًا متنوّعة تختلف في شدتها وأثرها الاجتماعي.
-
تخريب الممتلكات العامة: ككسر المصابيح، تلويث الجدران، تمزيق المقاعد أو خربشة السيارات.
-
إيذاء الآخرين نفسيًا: بالسخرية، الإهانة، أو الاستفزاز المقصود لإثارة الغضب.
-
تشويه الجمال: كإفساد الزهور أو الرسم على الجدران النظيفة أو تلويث المساحات العامة.
-
اللذة بالدمار: الشعور بالارتياح حين يرى الفوضى التي تسبب بها.
هذه المظاهر ليست مجرد “قلة ذوق” بل قد تكون إشارة إلى اضطراب أعمق في الضبط الذاتي والانفعالي.
الأبعاد الاجتماعية لعقدة الإيذاء
لا يعيش أصحاب عقدة الإيذاء في فراغ، بل يتفاعلون مع مجتمع يشعر معهم بالأذى.
-
تآكل الثقة: عندما تنتشر هذه السلوكيات، يفقد الناس الإحساس بالأمان العام.
-
تدهور الذوق الجمعي: إذ يعتاد المجتمع على مشهد الخراب والتوسيخ فيضعف الحسّ الجمالي العام.
-
نقل العدوى السلوكية: السلوك التخريبي قد يُقلَّد من قبل المراهقين في غياب الوعي التربوي.
-
الإفلات من العقاب: غياب الردع أو التربية الصارمة يغذي تكرار الفعل.
اقرأ أيضًا: جيل Z تحت المجهر: هشاشة نفسية في زمن السوشيال ميديا
العلاج والتعامل مع أصحاب عقدة الإيذاء
ليس الحلّ في العقاب فقط، بل في فهم السبب قبل ردّ الفعل.
-
العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يساعد في تعديل الأفكار العدوانية وتنمية ضبط النفس.
-
برامج إدارة الغضب: لتعلّم التفريغ الآمن للمشاعر السلبية بدل الإيذاء.
-
التربية الوقائية: تعليم الأطفال منذ الصغر احترام الممتلكات والبيئة.
-
الاحتواء المجتمعي: دمج هؤلاء الأفراد في أنشطة جماعية تزرع فيهم روح المسؤولية والانتماء.
-
العقوبات الإصلاحية: توجيه المخالفين لأعمال خدمة مجتمعية (كإصلاح ما خربوه) بدل الاكتفاء بالعقاب القانوني.
اقرأ أيضًا: التأمل في الطبيعة لإيجاد السلام الداخلي
الوقاية من عقدة الإيذاء
الوقاية من عقدة الإيذاء لا تتحقّق بالعقوبات وحدها، بل عبر تنشئة نفسية واجتماعية متوازنة تُغرس منذ الطفولة. فالإنسان لا يولد مخربًا، بل يتعلّم العدوان حين يفقد الأمان أو التقدير أو الاحترام.
-
تعزيز التربية الوجدانية: تعليم الطفل التعبير عن الغضب والحزن بالكلمات لا بالفعل، وتدريبه على تهدئة نفسه بطرق صحّية.
-
توفير بيئة آمنة ومحبة: الأسر المستقرة عاطفيًا تُنتج أفرادًا أكثر استقرارًا نفسيًا، بينما الإهمال والعنف الأسري يزرعان بذور الإيذاء لاحقًا.
-
تنمية الحسّ الجمالي والمسؤولية المجتمعية: إشراك الأطفال والمراهقين في حملات تنظيف وتجميل الأماكن العامة يُعزز لديهم الشعور بالانتماء والحرص على الممتلكات.
-
تعليم ضبط الانفعالات في المدارس: إدراج برامج “مهارات الحياة” ضمن المناهج، لتدريب الطلاب على إدارة الغضب والتعاطف مع الآخرين.
-
إبراز القدوات الإيجابية: عرض شخصيات ملهمة تحوّلت من الغضب إلى الإبداع، ومن الفوضى إلى البناء، يُساعد الشباب على إيجاد نموذج بديل للسلوك العدواني.
-
التدخل المبكر: عند ملاحظة سلوك تخريبي متكرر أو ميل واضح لإيذاء الآخرين، يجب التدخل النفسي والاجتماعي فورًا قبل أن يتحوّل إلى نمط مزمن.
خلاصة
إن عقدة الإيذاء ليست فقط سلوكًا عدوانيًا، بل رسالة مؤلمة من شخص لم يعرف كيف يتعامل مع ذاته أو غضبه، إنها صرخة تقول: “أنظروا إليّ، أنا موجوع… وسأؤلمكم كما تألمت” لكنّ الشفاء يبدأ حين يتحوّل هذا الدمار إلى وعي، وحين يتعلّم الإنسان أن يعيد البناء بدل الهدم. التربية الواعية، والعلاج النفسي، والردع الأخلاقي: ثلاث ركائز قادرة على تحويل هذه الطاقة التخريبية إلى طاقة إصلاح وبناء.