منذ آلاف السنين، سعى الإنسان إلى فهم العلاقة الغامضة بين الجسد والعقل. وبينما يُعتقد أن مفهوم الطب النفسي وليد العصور الحديثة، تكشف النصوص المصرية القديمة أن الطب النفسي عند الفراعنة كان له جذور عميقة، تربط بين النفس والبدن في وحدة مقدسة.
ففي زمنٍ لم يكن يُفرَّق فيه بين المرض الجسدي والنفسي، اعتقد المصريون القدماء أن القلب هو مركز التفكير والعاطفة، وأن أي اضطراب نفسي هو اضطراب في القلب، وليس في الدماغ. هذه الرؤية المتكاملة كانت بداية مبكرة لفهم ما نسميه اليوم بـ”الطب النفسي الجسدي” أو العلاقة بين العقل والجسد.
انضم إلى قناة بابونج المجانية على الواتساب نصيحة صحية يومية للحصول على نصائح طبية متنوعة يوميًا.
الطب النفسي عند الفراعنة
أظهرت دراسة بعنوان الصحة النفسية في الشرق الأوسط من منظور مصري (Mental Health in the Middle East: An Egyptian Perspective) منشورة في مجلة (Clinical Psychology Review) أن المصريين القدماء لم يستخدموا مصطلح “المرض النفسي”، لأنهم لم يفصلوا بين الروح (النفس) والجسد (السوما)، ويمكن توضيح ذلك كالتالي:
-
في بردية إبيرس وبردية كاهون، التي تُعد من أقدم الوثائق الطبية في التاريخ، نجد وصفًا دقيقًا لأعراض مثل القلق، الهلاوس، والاكتئاب، لكنها كانت تُعزى إلى اضطراب في القلب أو الرحم، لا إلى “العقل” بمعناه العصبي الحديث.
-
كانوا يرون أن العقل يسكن القلب، وأن توازن المشاعر والأفكار يعتمد على نقاء القلب، مما يعكس فهمًا مبكرًا للعلاقة بين المشاعر والصحة البدنية.
-
استخدموا آنذاك مزيجًا من العلاج الجسدي والروحي، يشمل الأعشاب، الطقوس الدينية، والتعاويذ التي تهدف لتهدئة الروح وتنقية الجسد معًا.
اقرأ أيضًا: متى يجب عليك مراجعة طبيب نفسي؟ إليك 10 علامات لا تتجاهلها

العلاج النفسي في الحضارة الفرعونية
على الرغم من الطبيعة الروحية للثقافة الفرعونية، فإن العلاجات النفسية لم تكن خرافية فقط، بل اعتمدت أيضًا على الخبرة الطبية والملاحظة الدقيقة، حيث كان المريض يُعالج في المعابد الطبية مثل معبد إمحوتب، الذي عُرف كأول طبيب في التاريخ، واعتمد الأطباء على ما يُعرف اليوم بالعلاج النفسي التكاملي:
- العلاج بالكلمة: حيث كان الكاهن يستخدم التنويم اللفظي والطقوس الإيمانية لإراحة المريض.
- العلاج بالموسيقى والروائح: اعتُقد أن نغمات الآلات الموسيقية تساعد على إعادة توازن الروح.
- العلاج بالأعشاب: استخدمت وصفات عشبية تهدئ الأعصاب وتحسن المزاج، منها البابونج واللوتس الأزرق.

هل كان الطب النفسي عند الفراعنة علمًا حقيقيًا؟
وفقًا لدراسة الصحة النفسية في الشرق الأوسط من منظور مصري، يمكن اعتبار الطب النفسي عند الفراعنة شكلًا مبكرًا من الطب النفسي الجسدي، إذ اعترفوا بوجود علاقة متبادلة بين الحالة النفسية والجسدية.
-
عندما يشعر الإنسان بالحزن أو الغضب، كان يُقال إن “قلبه مضطرب”.
-
وعندما يكون مطمئنًا، يوصف بأنه “صاحب قلب متوازن”.
-
هذه المفاهيم، رغم بدائيتها مقارنة بالطب الحديث، تعبّر عن وعي مبكر بأن المشاعر تؤثر على وظائف الجسد، وهي فكرة يؤكدها الطب النفسي العصبي اليوم.
اقرأ أيضًا: ما هي وصفة الفراعنة لتقوية المناعة؟

من مصر القديمة إلى الطب الحديث
لقد رسم المصريون القدماء الخطوط العريضة لفهم العلاقة المعقدة بين النفس والجسد، معتبرين أن توازن القلب والعقل هو مفتاح الصحة الشاملة. ومع مرور الزمن، استُمدت هذه الرؤية المتكاملة من الحضارة الفرعونية لتتطور خلال العصور الإسلامية، حيث تم تأسيس مستشفيات متخصصة لعلاج المرضى النفسيين في القاهرة خلال القرن الرابع عشر، مثل مستشفى القلاوون الشهير، الذي جمع بين العلاج الجسدي والنفسي والروحاني.
هذا الترابط التاريخي ليس مجرد رحلة زمنية، بل دليل على أن مصر كانت، وما زالت، أرض الريادة في فهم النفس البشرية، وقدمت للعالم مبادئ أولية للطب النفسي الحديث، تؤكد أن العلاج الفعّال يبدأ دائمًا من توازن العقل والجسد.
اقرأ أيضًا: بين الحقيقة والوهم..9 أكاذيب شائعة عن الصحة العقلية
الخلاصة
يُظهر تاريخ الطب النفسي عند الفراعنة أن المصريين القدماء سبقوا عصرهم في إدراك أن العقل والجسد وجهان لعملة واحدة. فقد تعاملوا مع الإنسان ككلٍّ متكامل، وجعلوا من التوازن النفسي والجسدي طريقًا نحو الشفاء.
ربما لم يعرفوا مصطلحات “الاكتئاب” أو “القلق”، لكنهم فهموا أن الاضطراب في القلب هو اضطراب في الروح، وأن العلاج يبدأ دائمًا من الداخل.