في عالم يواجه تحديات بيئية وصحية متزايدة، أصبح البحث عن مصادر غذاء مستدامة ضرورة ملحّة. ومع تزايد المخاوف من التلوث، والاستهلاك المفرط للموارد، وانبعاثات الكربون المرتفعة الناتجة عن تربية الماشية، توجهت أنظار العلماء نحو المختبرات لإعادة تعريف مفهوم “اللحوم”.
اليوم، نشهد ثورة حقيقية: دجاج يُزرع من خلايا حيوانية داخل المختبر، لكنه يحتفظ بكل مميزات اللحم التقليدي من حيث الشكل والمذاق والقوام. إنه ليس خيالًا علميًا، بل واقع جديد مدعوم بأبحاث دقيقة وتقنيات متقدمة يمكن أن تُحدث نقلة نوعية في الصناعات الغذائية، فما هو أصل الدجاج المزروع في المختبر؟ وهل سيكون على موائدنا قريبًا؟
انضم إلى قناة بابونج المجانية على الواتساب نصيحة صحية يومية للحصول على نصائح طبية متنوعة يوميًا.
ما هو الدجاج المزروع في المختبر؟
الدجاج المزروع في المختبر هو منتج حيواني يتم تصنيعه باستخدام خلايا دجاج حقيقية تُؤخذ من الحيوان دون قتله، وتُنمى في بيئة معقمة باستخدام تقنيات الزراعة الخلوية. الهدف من هذا الأسلوب هو إنتاج لحم يحاكي تمامًا لحم الدجاج التقليدي من حيث الملمس والطعم، دون الحاجة لتربية الطيور أو ذبحها.
في جامعة طوكيو، تمكن فريق بحثي من إنتاج قطع ناغتس باستخدام خلايا ليفية مأخوذة من دجاج حقيقي، وزُرعت هذه الخلايا على ألياف مجوفة فائقة الدقة تُشبه الأوعية الدموية، ما أتاح تغذية الخلايا بالأوكسجين والعناصر المغذية بشكل فعّال. بعد تسعة أيام فقط، حصل العلماء على نسيج لحمي بطول 2 سم وخصائص قريبة من لحم الدجاج الحقيقي.
هذه الطريقة تُعرف أيضًا باسم تقنية اللحوم المزروعة في المختبر (بالإنجليزية: Lab-Grown Meat) وهي تختلف عن البدائل النباتية التي تعتمد على الصويا أو البازلاء، إذ تقدم منتجًا حيوانيًا حقيقيًا دون الحاجة لتربية الحيوان كاملًا، والجدير بالذكر أن هذه التقنيات ستُحدث نقلة في إنتاج البروتين عالميًا، مع فرص واسعة لتحسين القيم الغذائية وتقليل التكاليف البيئية مقارنة بتربية المواشي التقليدية.
شاهد أيضًا: أطعمة يمنع تناولها نيئة
فوائد الدجاج المزروع في المختبر
لكن ما الذي يجعل هذا النوع من الدجاج أكثر من مجرد تجربة مخبرية؟ إليك أبرز الفوائد التي قد تغيّر طريقة تفكيرنا بالغذاء:
تقليل الانبعاثات وتحقيق الاستدامة الغذائية
أحد أبرز التحديات البيئية في عصرنا هو انبعاث غازات الاحتباس الحراري من مزارع الحيوانات. وفق تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (بالإنجليزية: FAO ,Food and Agriculture Organization) تساهم تربية الماشية بما يقارب 14.5% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًا. أما في حالة إنتاج اللحوم المزروعة في المختبر، فهذه النسبة تنخفض بشكل كبير، نظرًا لعدم الحاجة إلى مساحات شاسعة من الأراضي، أو كميات ضخمة من المياه والأعلاف، أو حتى إدارة النفايات الحيوانية.
تشير دراسة من جامعة أوكسفورد نُشرت في مجلة مجلة العلوم الزراعية والأرضية والبيئية (بالإنجليزية: Environmental Science & Technology) إلى أن اللحوم المزروعة يمكن أن تقلل انبعاثات الغازات بنسبة تصل إلى 96%، وتستهلك مياهًا أقل بنسبة 82% مقارنة بتربية الأبقار.
خفض استخدام المضادات الحيوية والمخاطر الصحية
الدواجن التجارية غالبًا ما تُربى باستخدام مضادات حيوية للوقاية من الأمراض، ما يزيد من خطر تطور مقاومة المضادات الحيوية لدى البشر. في المقابل، فإن البيئة المعقمة التي يتم فيها زراعة اللحم تقلل الحاجة لأي تدخل دوائي، مما يعزز سلامة المستهلك على المدى البعيد.
أيضًا، تُجرى اختبارات دقيقة على الدجاج المزروع في المختبر قبل تسويقها، ما يضمن جودة غذائية ثابتة، مع إمكانية تعديل المحتوى الغذائي حسب الحاجة، كزيادة البروتين أو تقليل الدهون.
شاهد أيضًا: خطوات صباحية صحية ستغير يومك!
هل يختلف طعم الدجاج المزروع عن الدجاج التقليدي؟
نتائج دقيقة… نكهة مطابقة تقريبًا
أظهرت اختبارات أجراها الفريق الياباني أن الدجاج المزروع في المختبر يمتلك نفس قوام اللحم الطبيعي تقريبًا، وحتى تركيبة الأحماض الأمينية فيه مشابهة. التحاليل أوضحت تطابقًا كبيرًا في النكهات الأساسية، مع وجود اختلاف طفيف في الحلاوة، والتي يعمل الباحثون على ضبطها لتحقيق تطابق تام مع المذاق التقليدي.
تجربة حسية قيد التطوير
رغم أن العينات المنتجة حاليًا لا تتجاوز 2 سم في الطول، فإن التقنية المستخدمة تتيح مستقبلاً إنتاج شرائح لحم كاملة بألياف عضلية واضحة. كما أن الألياف المجوفة التي تُستخدم لنقل المغذيات داخل الأنسجة تُحاكي بنية الأوعية الدموية، ما يُعطي للحم طراوة وتماسكًا مقاربًا للحوم المذبوحة.
هذه الخطوات ليست فقط إنجازًا علميًا، بل تُعد تقدمًا حاسمًا نحو إقناع المستهلكين بأن البروتين المزروع يمكن أن يكون بديلًا حقيقيًا على المائدة دون أي تنازل عن المذاق أو الجودة.
كيف ستغير اللحوم المزروعة مستقبل الغذاء؟
في عالم يزداد فيه عدد السكان بسرعة ويواجه أزمات غذائية متكررة، تُعتبر اللحوم المزروعة فرصة ذهبية لإطعام الملايين دون استنزاف الموارد. حسب تقديرات الأمم المتحدة، سيبلغ عدد سكان الأرض نحو 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، ما يعني أن الطلب على البروتين سيزداد بنسبة لا تقل عن 70%.
الاعتماد على التقنيات الخلوية في إنتاج اللحوم يمكن أن يعيد رسم خريطة الزراعة عالميًا، ويقلل الضغط على سلاسل التوريد الحيوانية، ويُقلل من الاعتماد على اللحوم المستوردة، بل وحتى يفتح بابًا للابتكار المحلي في تصنيع بروتينات جديدة.
المراكز المتخصصة، مثل المركز البريطاني لابتكار البروتينات البديلة، تعمل على تطوير مصادر بروتين من الحشرات والطحالب والأنسجة الحيوانية، في محاولة لإيجاد حلول غذائية صحية، غير ملوثة، ومتاحة بأسعار معقولة.
شاهد أيضًا: ما هي متلازمة الطفل الوحيد؟
تحديات قانونية وأخلاقية
رغم التقدم العلمي، يبقى السؤال هل العالم مستعد للانتقال؟ لا يزال هناك تحديات تواجه انتشار هذا النوع من اللحوم، أبرزها:
-
القوانين التنظيمية: لا تزال معظم الدول، خصوصًا في أوروبا، تفتقر إلى تشريعات واضحة بخصوص تسويق اللحوم المزروعة.
-
تقبل المستهلك: الجانب النفسي مهم، فالكثير من الناس لا يزالون مترددين أمام فكرة تناول طعام مصدره المختبر.
-
تكلفة الإنتاج: رغم انخفاضها مقارنة بالأعوام السابقة، إلا أن تكلفة الدجاج المزروع في المختبر ما تزال أعلى من اللحوم التقليدية، لكنها تنخفض تدريجيًا مع تطور التقنية.
لكن هذه العقبات تُذلل تدريجيًا، خاصة في ظل دخول شركات ناشئة واستثمارات ضخمة في هذا القطاع، ما يضع اللحوم المزروعة في مسارها الصحيح لتصبح جزءًا طبيعيًا من النظام الغذائي العالمي.
خاتمة
الدجاج المزروع في المختبر لم يعد فكرة بعيدة المنال، بل واقع ملموس يطرقه العلماء بكل دقة وعلم. هذا الابتكار لا يُمثل مجرد بديل للّحوم التقليدية، بل نقلة نوعية نحو نظام غذائي أكثر استدامة وصحة، ومع تزايد التحديات البيئية والضغوط السكانية، قد تكون اللحوم المزروعة هي المفتاح لمستقبل غذائي لا يعتمد على القتل، ولا يُساهم في تدمير البيئة.