بين شوارع المدن الصاخبة وهوائها المحمّل بالملوثات، يظهر سبب جديد يربط بين البيئة الحضرية وارتفاع معدلات الحساسية لدى الأطفال. دراسة أميركية حديثة سلّطت الضوء على دور بيئي وخلايا مناعية محددة قد تفسر هذه الظاهرة المتفاقمة، لتعيد تشكيل فهمنا لكيفية تطور جهاز المناعة في السنوات الأولى من عمر الإنسان.
انضم إلى قناة بابونج المجانية على الواتساب نصيحة صحية يومية للحصول على نصائح طبية متنوعة يوميًا.
حساسية الأطفال
تُعدّ حساسية الأطفال من أكثر الاضطرابات الصحية المزمنة شيوعًا في مرحلة الطفولة، وتظهر عندما يبالغ الجهاز المناعي في ردّ فعله تجاه مواد غير ضارة عادة، مثل الغبار، حبوب اللقاح، أنواع معينة من الطعام، أو وبر الحيوانات. لا تقتصر الأعراض على سيلان الأنف أو الحكة فقط، بل قد تتطور إلى طفح جلدي، أزيز في الصدر، أو نوبات ربو قد تُهدد الحياة. تؤثر هذه الحالة بشكل مباشر على جودة حياة الطفل، وتُقيّد نشاطه اليومي، وقد تُعيق أداءه الدراسي، مما يجعل التشخيص المبكر والتدخل العلاجي ضرورة ملحّة. كما تلعب البيئة المحيطة ونمط الحياة دورًا حاسمًا في تحفيز أو كبح هذه الاستجابات التحسسية، وهو ما تُسلط عليه الدراسات الحديثة الضوء لفهم جذورها بشكل أعمق.
تُعد الحساسية عند الأطفال من أكثر المشكلات الصحية شيوعًا بين الأطفال. ووفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، يعاني نحو 1 من كل 3 أطفال في الولايات المتحدة من نوعٍ من التحسس، ما يؤثر سلبًا على جودة حياتهم، أدائهم الدراسي، وحتى نشاطهم البدني اليومي.
شاهد أيضًا: الطعام والمزاج: هل يغير الأكل مزاجك للأفضل أم الأسوأ؟
خلايا مناعية غير مكتشفة سابقًا
في دراسة نُشرت مؤخرًا في المجلة العلمية للحساسية والمناعة (بالإنجليزية: Journal of Allergy and Clinical Immunology)، وجد باحثو جامعة روتشستر نوعًا فرعيًا جديدًا من الخلايا التائية المساعدة (Th2)، التي تتصرف بشكل مفرط تجاه بروتينات غذائية طبيعية، كأنها تشكل تهديدًا، فتطلق سلسلة من التفاعلات التحسسية.
هذه الخلايا، وفق الدراسة، وُجدت بكثرة في عينات دم أطفال يعيشون في مدن أميركية كبرى، مقارنةً بأطفال من بيئات ريفية، يتمتعون بجهاز مناعي أكثر توازنًا، مما يجعل حساسية الأطفال أكثر شيوعًا لدى أطفال المدينة.
الفرق بين أطفال المدن والريف
تُظهر النتائج أن أطفال المدن لديهم مستويات مرتفعة من خلايا Th2 ذات الصفات الالتهابية، والتي ترتبط بظهور أنواع مختلفة من الحساسية، مثل الأكزيما، الربو، التحسس الغذائي، وحتى التهاب الأنف التحسسي.
أما أطفال الريف، فقد تميزوا بوجود خلايا تنظيمية مناعية أكثر، وهي مسؤولة عن تهدئة التفاعلات المناعية المفرطة ومنع الجسم من مهاجمة المواد غير الضارة.
تنوع الميكروبيوم
رجّح الباحثون أن سبب إصابة أطفال بالمدينة بالأمراض المتعلقة بحساسية الأطفال لا يعود فقط للوراثة أو نمط الحياة، بل إلى تنوع الميكروبات المحيطة بالطفل منذ ولادته.
البيئة الريفية الغنية بالبكتيريا المفيدة والمواد الطبيعية تحفّز تطور جهاز مناعي متوازن. في المقابل، تميل البيئة الحضرية المعقمة إلى إضعاف هذا التنوع الميكروبي، ما يدفع الخلايا المناعية إلى التفاعل بشكل مبالغ فيه.
لماذا هذا الاكتشاف مهم؟
تقول الدكتورة كيرسي يارفينين – سيبو، الباحثة الرئيسة في الدراسة، إن هذا الكشف قد يُحدث ثورة في طريقة الوقاية من الحساسية مستقبلًا. إذ من خلال فهم كيف تنشأ هذه الخلايا الالتهابية في السنوات الأولى من عمر الطفل، يمكن تطوير استراتيجيات وقائية جديدة لحماية أطفال المدينة من حساسية الأطفال، مثل:
-
استخدام مكملات البروبيوتيك المدروسة.
-
التدخلات الغذائية والبيئية المبكرة.
-
دعم تنوع الميكروبيوم لدى الأطفال منذ الولادة.
شاهد أيضًا: حساسية الطعام: كيف قتل البراونيز فتاة في عمر الزهور؟
نحو جيلٍ أقل تحسسًا
نتائج هذه الدراسة تفتح آفاقًا جديدة في مجال المناعة والوقاية من أمراض الحساسية، وتسلّط الضوء على أهمية البيئة الأولى التي ينمو فيها الطفل. لم يعد الأمر محصورًا فقط بما يأكله الطفل أو بما يرثه من جيناته، بل يشمل ما يُلامس جلده، ويحيط به من ميكروبات وهواء وتربة. فبيئة المدينة الحديثة، بتعقيمها الزائد وهوائها الملوث ونقص تنوعها الميكروبي، قد تُربّي جهازًا مناعيًا غير متوازن، يبالغ في ردّ فعله تجاه المؤثرات العادية. على النقيض، تُقدم البيئات الريفية تجربة حيوية مختلفة، حيث يختلط الطفل بالحيوانات، ويتعرض لتربة غنيّة بالبكتيريا المفيدة، ويعيش في محيط يحفّز جهاز المناعة على التعلّم والتسامح بدلًا من الاستنفار الدائم.
تشير الأدلة المتزايدة إلى أن تعزيز تنوع الميكروبيوم في الطفولة المبكرة قد يكون من المفاتيح الذهبية للوقاية من أمراض الحساسية لاحقًا. وتشمل الوسائل الممكنة لذلك تشجيع الرضاعة الطبيعية، التقليل من استخدام المضادات الحيوية دون داعٍ، وربما مستقبلًا تطوير مكملات بروبيوتيك متخصصة أو تدخلات بيئية مدروسة تُعيد لجهاز المناعة توازنه الطبيعي.
شاهد أيضًا: أزمة صامتة: المادة البلاستيكية السامة تقتل الآلاف حول العالم
الخلاصة
لم تعد الحساسية مجرد استجابة بيولوجية، بل هي مرآة للبيئة التي نبنيها حول أطفالنا. وكلّما اقتربنا من الطبيعة، واحترمنا تنوعها، ساعدنا جهاز المناعة الصغير على أن يكبر دون خوف، ودون أن يرى في كل حبة غبار أو وجبة طعام، عدوًا يجب أن يُهاجم.